2019مساهمة د. فاديا كيوان المديرة العامة لمنظمة المرأة العربية في الجلسة الأولى “المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية” أبو ظبي 3 – 4 فبراير

أودّ بدایة توجیه الشكر إلى سلطات الامارات العربیة المتحدة على دعوتي للمشاركة في
ھذا الحدث الثقافي الھام جداً للإنسانیة جمعاء وتوجیه التھنئة ایضاً على اختیار ھذا
الموضوع/ الاشكالیة وفتح نقاش صریح وشجاع حول أوجه عدة في مسألة الأخوة الانسانیة
لا بل حول علاقة الأدیان السماویة بالأخوة الانسانیة.
تلفت الدراسات الأنثروبولوجیة إلى ظھور وعي حدسي لدى المجتمعات البشریة الاولى
حول وجود خالق للكون وللبشر وجاءت تجلیات ھذا الحدس تبني صوراً متنوعة لخالق
الكون وخالق البشر، فجسّده الحدس بدایة في صورة قوة طبیعیة متحكمة بمصیر الأرض
والبشر وسائر الكائنات وبالكون بكامله،
وتشیر العدید من تلك الدراسات إلى وجود علاقة میكانیكیة كانت تشكل الرابط/العصب/
فیما بین أفراد كل جماعة من البشر. وكان یشتد العصب بین أفراد كل جماعة مع اشتداد
الصعاب والتحدیات التي كانت كل جماعة تواجھھا في سعیھا إلى ایجاد سُبل العیش والبقاء.
فھناك شعوران كانا یتملكان من الجماعات البشریة الأولى: شعور التضامن المیكانیكي بین
أفراد كل جماعة وشعور بالعداء تجاه الجماعات الاخرى. وھذان الشعوران كانا ینتجان
تماھي للأفراد في جماعتھم والعدوانیة تجاه الاخرین.
حتى كبار المفكرین المعاصرین أشاروا إلى ما أسموه “الشیوعیة البدائیة” واذكر من بینھم
جان جاك روسو وكارل ماركس، ومعلوم أن روسو رسم صورة الإنسان الأول ، الطیب
بالفطرة والذي یفسده العیش في ظل شریعة الغاب وروسو وضع تصوراً للأسباب التي
دعت البشر إلى الانتظام تحت سلطة مدنیة للخروج من حال شریعة الغاب والحصول على
الأمان .

أما ماركس، فقد اعتبر أن الخروج من الشیوعیة البدائیة حصل عندما وضع الافراد الأكثر
قوة من سواھم یدھم على الأرض وعلى الممتلكات وعلى البشر واستملكوھم. فإذا بظاھرة
التملك الخاص تنتج الصراعات والعدائیة.
ونعلم أن ماركس اعتبر انه في إلغاء التملك الخاص طریقاً للعودة إلى الأخوة الانسانیة.
ونعلم ایضاً ان ھذه الیوتوبیا الماركسیة اصطدمت بالواقع الذي بیّن جنوح البشر إلى تملك
السلطة وسعیھم إلى الابقاء على سیطرة من كان في السلطة على سائر البشر. وھذه كانت
بعض أسباب انھیار الأنظمة الاشتراكیة والشیوعیة في ثمانینات القرن الماضي.
المفھوم المادي المحض للكون وللعلاقات بین البشر سقط سقوطاً مدویاً وعادت تعلو
المنظومات الفكریة التي سلطت الضوء على المشاعر والقیم التي تربط بین البشر. وقد
أشار الفیلسوف شوبنھاور Schopenhauer إلى شعور التعاطف compassion الذي
یعلو كل الفروقات بین البشر ویشدّھم إلى بعضھم. وذھب الفیلسوف جان بول سارتر إلى
حّد تقدیس الذات /الأنا Ego على أنه قادر على تجاوز نفسه وانتاج قیم تبني له علاقة
أمان مع ذوات الآخرین. لكن نعلم أن الخیار الذي طبع الفكر الوجودي عند سارتر والذي
كان الإلحاد الوجودي، لم یسمح لسارتر ببناء علاقة أمان ثابتة ومستقرة للذات البشریة بل
أنه اعتبر الذات البشریة في حالة صراع أو كباش دائم مع ذوات الآخرین وقد اشتھر في
ھذا السیاق قوله “بأن الجحیم ھو الآخرین”.
في مقابل الوجودیة الإلحادیة ظھرت مدارس فكریة وجودیة ھى الاخرى لكنھا رأت في
قدرة الذات على تجاوز نفسھا طاقة للتلاقي مع ذوات الآخرین وحول بناء منظومة قیم
انسانیة ونذكر من ھذه المدارس: التیار الوجودي المسیحي مع ایمانویل مونیهEmmanuel Mounier والتيار الشخصاني Humanistic personalism عند تیار دو شاردان Chardin de Teillard ، ھذه الاتجاھات الفكریة المتقابلة والمتعارضة انحصر تأثیرھا في وسط المثقفین لكنھا لم تتسع تأثیرا لتشمل العامة ولتطبع سلوك المجتمعات بشكل واسع.

وحدھا الأدیان السماویة في مرحلة أولى، استطاعت إحداث نقلة نوعیة في حیاة البشر .
فقد أرشد الأنبیاء والرسل البشر إلى الرب تعالي خالق الكون وخالق البشر واستكملت ھذه
الرسالة عبر إنجیل المسیح. ونحن العرب نعرّفه بیسوع الناصري ناشر الدعوة إلى المحبة
والأخوة بین البشر والذي یقال عنه أنه ربط الأرض بالسماء. وكذلك رسالة النبي محمد،
صلي الله علیه وسّلم، وقد أنزل علیه الرب كتابه المقدس، القرآن الكریم، لیؤكد علاقة البشر
برب العالمین ولیدعوھم الي الرحمة وإلى الأخوة، إلى البر والإحسان، والصدقة والذكاة،
والشفقة.
وفیما نتجه نحن كعرب إلى التغني بأن الرب تعالي قد اختارنا كأمة عربیة لینزل علینا
كتابه وبلغتنا العربیة، یعود إلى ذاكرتي القول المأثور للنبي محمد ، صـلى اللهُ علیه وسلـم،
“رُب أخ لك لم تلده أمك” وقوله “لا فرق عند الله بین عربي و لا أعجمي و لا أبیض ولا
أسود إلا بالتقوى”، وقوله تعالى “یا أَیُّھَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهَ أَتْقَاكُمْ”،
وتكتسب ھذه الأقوال قیمة عظمى عندما نتذكر بأن المجتمعات العربیة كانت منقسمة إلى
قبائل تتصارع باستمرار . وھذه الأقوال تشیر بوضوح إلى الأخوة، خارج إطار عصب
الرحم والذي تحدث عنه إبن خلدون، أو العصب العشائري أو القبلي والذي استرسلت في
وصفه الدراسات الأنتروبولوجیة والقول الأخیر یشیر بوضوح إلى البعد الإنساني الأكبر
للرسالة الإسلامیة .
بعد ھذه اللمحة السریعة إلى البدایات والاتجاھات الفكریة، من واجبنا التوقف عند واقع حیاة
البشر في زمننا الحاضر.

وفي ھذا السیاق ، فإننا نرصد أربعة منطلقات معاصرة للأخوة الإنسانیة :
1) المنطلق الحدسي : وھو مجبول بطبیعتنا الإنسانیة وھو یرافقنا منذ وجود البشر
على ھذه الأرض . وھذا المنطلق الحدسي یفسّر شعورنا العفوي بالتعاطف مع
الآخرین ، مع إقرارنا بأن التعاطف یقوي ویضعف بحسب اعتبارات نفسیة عدة،
منھا صلة القربى، ومن أقواھا عصب الرحم ، ومنھا الشبه والتماثل والتماھي
اللاشعوري .
ومنھا ما ھو مرتبط بتصورات خاصة تجول في وعي كل إنسان وحتى في لا وعیه
فتتجلى حباً ومحبة وشفقة وتعاطف وأخوة وتضامن وغیرھا من المشاعر الإنسانیة
النبیلة. لكن علینا الإقرار بعشواءیھا وتقلبّھا طالما بقیت متغلغلة في لاوعي كل
إنسان، ومتقلبة بفعل مزاجه وأحواله النفسیة.

2)المنطلق الدیني: في بعده الأخلاقي وھنا تتجلى أھمیة الأدیان السماویة الثلاث
الیھودیة والمسیحیة والإسلام. وبالطبع علینا أن نمیّز نحن العرب، بین الیھودیة كدین
والصھیونیة كعقیدة سیاسیة عنصریة لطالما دعت إلى نصب العداء لنا وإلى مواصلة
احتلال أرضنا ودعت وتدعو إلى التقوقع وإلى بناء الجدران.
والمسیحیة في صمیمھا دین المحبة كما دعي إلیھا السید المسیح، ودین الإحسان
والأخوة. وتشكل سیرة السید المسیح، یسوع الناصري، قدوة في ھذا المجال.
والإسلام دین الرحمة والتكافل بین البشر وقد دعي إلى ذلك النبي محمد ،صلى الله
علیھ وسلم، خاتمة الأنبیاء .
وقد طبعت الدیانات السماویة بشكل واسع حیاة المجتمعات البشریة لأن كل من ھذه
الدیانات انتظم في منظومات قیمیه كانت وما زالت تنقل إلى الناس أھدافاً أخلاقیة
وتضع ضوابط للسلوكیات البشریة لتبقى مھتدیة إلى الله تعالى ولتذكر بشكل دائم أن
ھناك دنیا وھناك آخرة وأننا خلق الله ومؤتمنون على الأرض وعلى البشریة وعلى
كل الكائنات.

3)المنطلق المدني : وھو مرتبط مباشرة بالتشریعات والقوانین الوضعیة التي أرست
علیھا سائر المجتمعات المعاصرة قواعد حیاتھا المشتركة وحاولت أن تجسّد من
خلالھا القیم الانسانیة التي توثّق العرى بین الناس وتؤسس للأمان والسلام.
ولا یخفى على أحد أن المنظومة الحقوقیة المعاصرة والتي تتجسد بالشرعة العالمیة لحقوق
الانسان متأثرة جداً بالأخلاقیات الدینیة وإن ھي بدت مستقلة عنھا.
وإشھار انسانیتنا كبشر لا یتعارض اطلاقاً مع ایماننا الدیني بل یبدو أنه ینزّه الایمان بالقیم
الانسانیة عن كل علاقة بالسلطة أو السلطان.
وعلینا أن نقّر بأن الدیانات السماویة لم تنحصر في الرسالة التي أدلى بھا المسیح واقتدى
بھا ودعانا إلى اتّباعه في دین المحبة، ولا في الكتاب المقدس وكلمة الرب تعالى والمُنزل
على النبي ،محمد صلى الله علیه وسلم، بل أن ھذه الدیانات سلكت مسارات تاریخیة
وتداخلت مع نظم اجتماعیة وسیاسیة واختلطت أكثر من مرة وفي أكثر من مكان بالسلطة،
فتحولت احیاناّ إلى أداة لإعطاء الشرعیة إلى السلطة بدل أن تكون مرشداّ لھا وھدایة للحكام
والمحكومین على السواء.
أمام ارتباط تاریخ الدیانات السماویة بالحكم السیاسي، تفلتت القیم الاخلاقیة من النظم
وسلكت طریقھا إلى بناء اخلاقیات انسانیة مستقلة تنشد الأخوة والسلام.
لكن الاعلان العالمي لحقوق الانسان لیس لدیه ذراع تنفیذیة اذا لم یعتمد طریق الاتفاقیات
الدولیة التي تمر عبر الممر الالزامي للدول وللحكومات وللسیاسة
.
4)منطلق التحدیات المستقبلیة المشتركة: وھو بدون شك ذي قیمة كبرى بالنظر إلى
جسامة الأضرار التي حلّت بالأرض وبالبشریة ونذكر الصراعات المسلحة
والحروب التى تفتك بالمدنیین وجلھّم من النساء والفتیات ویذكر أیضا التغییر
المناخي والكوارث الطبیعیة وسواھا .

الخلاصة :
الأخوة الانسانیة حدس ودین وبناء مدني ومواجھة مشتركة للتحدیات إذ أن ھذه
المنطلقات الأربعة تدعو إلى تعزیز الروابط بین البشر وفي ذلك اقرار بمبادئ لا مفر
منھا:
1-اقرار بالتنوع الثقافي بین البشر، افرادا وجماعات واحترام للتنوع والاختلاف.
2-التخلي عن الصور النمطیة للآخر أكان من دین آخر أو عرق آخر أو قومیة أخرى
أو من طبقة اجتماعیة أخرى، اكان رجلاً أم امرأة، واعتبار الناس أخوة فوق كل
الاعتبارات یستحقون الاحترام والمحبة. وإقرار حریة الضمیر والحریات الشخصیة
لكل فرد راشد.

3-البحث عن الأمان ھو حاجة لبني البشر أجمعین وھو مسؤولیتھم في نفس الوقت.
4-السلام المبني على العدالة وحده یوّفر الأمان للبشر وبناء السلام یجب أن یسترشد
بقیم حقوق الانسان وادواتھا القانونیة كافة.
5-مصیر الأرض ھو مسؤولیة مشتركة لبني البشر. وھناك تحدیات خطیرة تھدد
الأرض وسائر الكائنات، ولا نستطیع مواجھتھا إلا بالتضامن والتعاضد بین البشر
وبین الأمم.

في زمننا الحاضر ھناك اتجاھان یسلكھما الناس والمجتمعات:
– بناء الجدران أو بناء الجسور.
– أما بناء الجدران فیسیر عكس التاریخ وعكس مصالح الناس ویؤجج الصراعات و
وینتج الحروب.
– وأما بناء الجسور فھو الطریق الأسلم إلى الاستقرار والأمان وبناء السلام.

فھل ستساھم الأدیان السماویة في بناء الجسور فتساھم في انقاذ البشریة وانقاذ الأرض
نفسھا؟
فاتني التحدث عن الفیلسوف الألماني ایمانویل كنط Kant والذي أسس السلم العالمي على
قاعدة العقلانیة العملیة/ التطبیقیة\ العقل العملي. لكن فكر كنط لیس غریباً عن الثقافة الدینیة
لكنه حاول الابتعاد عن الدین عندما یكون أداة للسلطة وأن یؤسس لما وجد فیھ طریق السلم
العالمي وھو رابط الانسانیة العالمي.
نعود فنكرر تحیتنا إلى المنظمین واقتناعنا بأن ھذه المبادرة المباركة تعكس یقظة للوعي
الانساني فلعّل ھذه الیقظة تساھم في انقاذ الانسانیة وانقاذ الأرض من المصیر القاتم الذي
یھددھما.

مداخلة د كيوان